المقدس قوة ذات وجهين يحيي ويميت في آن البريطاني تيري إيجلتون يحاول أن يوضح فكرة الإرهاب ضمن سياق أكثر أصالة

 

لا يرمي هذا الكتاب “الإرهاب المقدس” وفقا لمؤلفه الناقد والمفكر البريطاني تيري إيجلتون أن يكون إضافة إلى الركام الهائل من الدراسات السياسية حول موضوع الإرهاب، لكنه يحاول بدلا من ذلك، أن يوضح فكرة الإرهاب ضمن سياق أكثر أصالة، سياق يمكن أن يسمى على نحو فضفاض “ميتافيزيقيا”، ومن ثم فهو ينتمي إلى النطاق الميتافيزيقي أو اللاهوتي أو الدائرة الكاملة. لافتا إلى أن عمله اندرج في ذلك طيلة أعوام الأمر الذي رحب به البعض ونظر إليه البعض بخوف أو سخط، وفيما يتعلق بالسخط “عليّ أن أقول لأصدقائي في صفوف اليسار بأن الرؤية السياسية التي ينطوي عليها هذا الحديث الغرائبي عن الشيطان وديونيسوس، وأكباش الفداء والأبالسة، أكثر جذرية من كثير مما يعثر عليه في الخطابات الأكثر أرثوذكسية للتيار اليساري اليوم“.
وأضاف إيجلتون في مقدمة كتابه الصادر عن دار “ظلال وخطوط” وترجمه أسامة أسبر “ليس الإرهاب سياسيا بأي معنى تقليدي للمصطلح، ولهذا فهو يطرح تحديا على أنماط فكر اليسار المألوفة، فاليسار خبير جدا بالقوى الإمبريالية وحرب العصابات، ولكنه مشوش بوجه الإجمال إزاء فكرة الموت والشر والتضحية والسامي، فهذه الفكرة والأفكار المرتبطة بها، هي حسب اعتقادي وثيقة الصلة بأيديولوجيا الإرهاب بقدر ما هي مفهومات أكثر دنيوية أو مادية.
هدف الكتاب وفقا لهذه الرؤية إلى إغناء لغة اليسار وإلى تحدي لغة اليمين، وربما يعود هذا جزئيا إلى أن المؤلف يعيش في بلاد اعتادت على تعليم السياسة والميتافيزيقيا معا في جامعاتها، ولم يكن غريبا فيها أن يمتلك الحلاقون وسائقو الباصات معرفة عابرة بأفكار القانون الطبيعي أو بنظريات الحرب العادلة.
تعقب إيجلتون تفسير ظاهرة الإرهاب بدءا من الشعائر القديمة مرورا بعلم اللاهوت القروسطي إلى السامي في القرن الثامن عشر وباللاشعور الفرويدي وعلاقاتها بالحرية والرأسمالية، كما تعقب رؤى الفلاسفة والمفكرين والأدباء حين ناقش أفكار الحرية والإرادة، وحلل حضور الجسد لدى الانتحاري والشهيد، لافتا إلى فرق واضح بين حب مرضي للموت من أجل الموت وبين عناق للتضحية بالذات كوسيلة لحياة جديدة. وقال إنه من الممكن ألا تبدو سلسلة النسب التي تعقبها الكتاب اعتباطية فحسب بل وغير تاريخية بنحو ظاهر، فهي اعتباطية لأنها لا تمثل التاريخ الوحيد السابق للظاهرة التي يجري توصيفها؛ وهي غير تاريخية، كما أعتقد، في سياق فهم خاص ومحدد للتاريخي“.

ولفت إلى أن الإرهاب يعتبر تسمية حديثة لظاهرة يفترض أنها قديمة، حيث ظهر كفكرة سياسية إبان الثورة الفرنسية، أيضا كلمة إرهابي ظهرت في سياق مصطلحات ثورية فرنسية، وأكد أن الإرهاب قديم قدم الإنسانية نفسها، فقد كان البشر يسلبون ويقتلون بعضهم بعضا منذ فجر التاريخ، ويعود الإرهاب بمعناه الأكثر خصوصية، إلى حقبة ما قبل العالم الحديث. ففي تلك الحقبة ظهر مفهوم المقدس إلى الضوء؛ وكانت فكرة الإرهاب بنحو مرجح، وثيقة الصلة بفكرة المقدس الغامضة، وسبب غموضها أن كلمة مقدس يمكن أن تعني مباركا أو ملعونا؛ مقدسا أو معلعونا، وقد ظهرت في الحضارة القديمة أشكال من الإرهاب خلاقة ومدمرة في آن، مانحة للحياة ومبددة لها، فالمقدس خطير، إذا وضع في قفص بدلا من علبة زجاجية.
وأشار إيجلتون إلى أنه ربما كانت الصلة بين الإرهاب والمقدس، بنحو خاص وحتى مضلل، غير مرئية في إرهاب زمننا. إذ ليس هناك معنى مقدس بوجه خاص في قطع رأس شخص ما باسم الله الرحمن الرحيم، أو في حرق الأطفال العرب بقنابل الطائرات باسم قضية الدميقراطية. غير أن من المتعذر أن نفهم تماماً فكرة الإرهاب دون أن نفهم أيضاً هذه الثنائية. فالإرهاب يبدأ كفكرة دينية، كما هو الحال في كثير من إرهاب اليوم؛ ويتعلق الدين بالقوى المتناقضة التي تنعش الحياة وتدمرها في آن.
واعتبر إيجلتون أن المقدس قوة ذات وجهين، فهو يحيي ويميت في آن، ويمكن تعقبه بدءاً من طقوس ديونيسوس الماجنة وحتى إغواءات السامي المدمرة. وتُدعى تجسداته الأولى، في الحضارة الحديثة المتأخرة، باسم اللاوعي، أو غريزة الموت، أو الواقعي. وهذه الازدواجية الوحشية، التي تجسدت لدى السلالة اليهودية المسيحية، في إرهاب الله المقدس، تكمن في جذر المفهوم الحديث للحرية. ذلك أن فكرة الحرية المطلقة، مدفوعة إلى حدها الأقصى، تنطوي على شكل من الإرهاب يتحول ضد تناهي الجسد في فعل التماسه لخدمته. وتنسل كمثل البطل التراجيدي، عبر جبهة لامرئية يستحيل فيها “الكل شيء” الخاص بها إلى عدم. ولكن حتى هذا ليس حدا مطلقا. ذلك أنه من الممكن أيضاً، لأولئك الذين يهزلون بيأس في قبضة غريزة الموت، أن يشاؤوا عدماً كهذا، والذي نعرفه كشر. وكما أن هناك نوعاً جيدا وآخر سيئا من الحرية، فهناك أيضاً طريقة جيدة وأخرى سيئة للرغبة بالعدم. والطريقة الجيدة هي نموذج كبش الفداء التراجيدي، الذي يجسد نوعاً من الإرهاب المقدس أكثر قدرة على العلاج.

وأضاف “ينطوي نوع الإرهاب الذي يتسكع في أسواق دمشق أو فوق جبال مونتانا على خليط من العنف والمثالية الأخلاقية. فهو بهذا المعنى، محاكاة ساخر وحشية لنمط الحياة التي يعارضها. فالمجتمع الرأسمالي مزيج من المثالية والشكوكية، من الملائكي والشيطاني، يخفي سباقه من أجل خلف معتقدات ورعة جليلة. وهذا الوضع ليس واضحاً في أي مكان كوضوحه في الولايات المتحدة، موطن الحامية الدينية المتوهجة وموطن السعي الدنئ إلى الربح المادي. يقول دي توكفيل في كتابه “الديمقراطية في أميركا” إن: “الجنون الديني شائع في الولايات المتحدة”. من الصحيح على أي حال أن الحضارة الغربية، وليس مطلقاً في بريطانيا، تتمسك، على العموم، بوجهة نظر في الدين شبيهة بوجهة نظر مستشار الكحوليين في الكحول: الكحول جيد جداً طالما أنه لا يعيق حياتك اليومية. وهي أيضاً وجهة النظر التي يميل المدراء التنفيذيون للشركات إلى تبنيها في الأخلاق. يعكس الإرهاب هذه الوحدة بين المثال والعدمية. ويتجلى وجهه الشيطاني أو العدمي بشكل مرح: انظر، هذه خالصة حضارتك الغربية العظيمة: إنها مجرد كومة من اللحم المحرق خالية من أية قيمة، مادة خام متراكمة، مادة لا معنى لها مبعثرة في الريح مثل كثير من الأعضاء النازفة. لكن انظر أيضاً إلى المثُل الملائكية التي أهدم باسمها منزلك على مسمع منك. تلك هي مثاليتنا السامية التي تلهمنا أن نبيدك كقذارة”.
ورأى إيجلتون أن الحرية تنطوي دوما على اختلال معين داخلها، لا تستطيع أن تستأصله أو تدعمه. فهناك خرق للقانون راخم في الوضع القائم الرأسمالي، على افتراض أن هذا الخرق يروق لسلطة النظام باسم حرية فوضوية. لذا فإن الحرية المطلقة هي الرغبة المكبوتة أو اللاوعي السياسي لرأسمالية مدنية ومعقولة ورزينة. إنها فنتازيا الرأسمالي الذي يحلم أنه دون منافسين، رغم أنه يعلم بأن ذلك سيؤدي إلى هلاكه هو وخصومه. إن حرية من هذا النوع هو قوة مستبدة، ليس لها ولاء إلا لوجودها الخاص مثل عمل فني مستقل. وكنوع من التجاوز المستمر. فهي لا توجد إلا من خلال تقوية القانون وفك القيود ومحو الآثار. ولأنها سلبية بنحو محض فهي دون جسد، وبالتالي فهي خارج نطاق التجسد على نحو سام.
وأكد أنه بهذا المعنى لا يمكن أن يتمظهر المبدأ المركزي لحضارة الطبقة الوسطى داخلها. لأن هذا الشيء الخادع الزئبقي الذي يدعى الحرية ينزلق عبر شبكة تمثيلاته دون أن يشعر به أحد إلا كصمت خفي أو حضور شبحي. فنحن نعرف أننا أحرار كما يقول إمانويل كنت حينما نقبض على أنفسنا ونحن نتصرف بهذه الطريقة أو تلك بملء إرادتنا؛ ولكننا لا نستطيع أن نصوغ هذه القوة الزئبقية في نظرية معرفية أو صورة حسية. فالمجتمع البرجوازي بهذا النحو محطم للأيقونات. كذلك فإن جوهر إنسانية الطبقة الوسطى هو نوع من العدم.
ولاحظ إيجلتون أن الإرهاب يوظف الصدمة والرعب من أجل غايات سياسية، رابطا بين التعبيري والأدائي، فهو يمزج بين اللاهادف والهادف على غرار العمل الفني كما يراه “كنت”، والتشدد الصرف الذي ينبهنا إلى دافع الموت ـ كملحق ـ في داخله. ويصح الأمر نفسه على إرهاب الدولة الذي يرى أن القوة هي وظيفة وغاية في آن. وما ندعوه بغرور القوة إنما هو حساسيتها وشعورها بأهميتها الذاتية وخيلاؤها ونرجسيتها وغضبها من كونها قد أسييء إليها أو بأنها أذلت حتى حين لا يعيق هذا أي هدف مهم لها.

تعليقات
تحميل البيانات ....

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافق إقرأ أكثر