هل الرئيس الفرنسي ماكرون يخشى النظام العالمي القادم

 

إن تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون لمجلة الإيكونيميست بتاريخ 02/5/2024 تستحق الدراسة والتأمل بعمق واستنارة قوله:  ⁽⁽ إن موت أوروبا يمكن أن يكون أكثر وحشية مما نتصور وإنها تعيش الآن خطراً وجودياً ثلاثياً، عسكرياً، امنياً، اقتصادياً و ديمقراطياً ⁾⁾ وعطفاً على تصريحاته السابقة عام 2019 أي قبل خمسة سنوات تقريباً، والذي اعتبر فيها أن اوروبا ميتة دماغياً أي أنها دخلت غرفة العناية المركزة وتستمر بالحياة بمساعدة أجهزة مؤقتة ، إضافة إلى تصريحاته في شهر فبراير الماضي إنه لا يستبعد إرسال قوات غربية إلى الأراضي الأكرانية وتحذيره لأوروبا بأنها إذا لم ترسل قوات فستفقد أوربا امنها واستقلالها ولقد رد عليه وزير الخارجية المجري السيد “بيتر سبارتو” بأن هذه التصريحات تهديد يؤدي إلى اتساع نطاق الحرب الأوكرانية لتشمل الاتحاد الأوربي ، ويفهم من ذلك أن ماكرون يخشى على مستقبل اوروبا من خطر وجودي ممزوج بالقلق والخوف من موت قرن أوسطي كما يتصور سيادته.

ــ بوضع تصريحات الرئيس ماكرون تحت مجهر الحوكمة والتساؤل لماذا يخشى موت أوربا وبطريقة وحشية وأنها دخلت بحالة موت سريري، والموت السريري يعني غالباً الموت الحقيقي فيزيولوجياً.

ــ لا يمكن أن يكون هذا الخوف من روسيا فهي غير قادرة مالياً وعسكرياً على انهاء الوجود الأوربي كنظام ديمقراطي وسياسي ومالي ، أي إنهاء الشكل السياسي و الجغرافي الحالي للاتحاد الأوربي حيث الاقتصاد الروسي في أفضل حالاته يكافئ الاقتصاد الاسباني أو الايطالي ، وماتزال روسيا دولة بترولية مثلها مثل السعودية ، وكل قوتها تكمن في السلاح النووي وهو غير قابل للاستعمال وغدا نمراً من ورق كما قال ((ماوتسي دونغ)) في سبعينات القرن الماضي حيث فجر قنبلته النووية ودخل نادي الكبار ، وتوقف عن إتلاف المال العام من غير جدوى ، عندما عرف بأن السلاح الكيماوي والبايولوجي أرخص وأخطر من السلاح النووي ، وركز على الاقتصاد وترك البريستيج النووي إلى مغفلي السياسة التقليدية.

اخر المقالات
1 من 48

ــ إن أوربا حاولت كثيراً الخروج من تحت المظلة الأمريكية والاستغناء عن حماية حلف الأطلسي، فأعدت مشاريع فرنسية والمانية لإنشاء كيان أوربي سياسي وعسكري كمشروع ((الاتحاد من اجل المتوسط)) وفشلت كما فشل مشروعها العسكري في عهد الرئيس “ساركوزي” المكون من ((فرنسا- المانيا – ايطاليا – اسبانيا – البرتغال – اليونان)) مع وضع بريطانيا كمراقب عام، لكنها فشلت أيضاً كما

 

 

فشل الاتحاد الأوربي نهائياً كقوة عسكرية واقتصادية بعد خروج الخبثاء البريطانيين، بغرض أن

يقودوا أوروبا بمقود خلفي ويحافظوا على علاقتهم المصلحية النفعية مع الولايات المتحدة، بمسك العصا من منتصفها بين الأمريكان والأوربيين.

ــ إن الحرب ” الأوكرانية” أظهرت بشكل واضح تناقض المصالح بين الامريكان والأوربيين، حيث تأكد وقوف الولايات المتحدة وراء القيادة السياسية الأوكرانية، وقصدت الولايات المتحدة إضعاف الروس والأوربيين اقتصادياً وعسكرياً بوضعهم بموقف حرج، إما الاستسلام للروس كقوة عظمى أوربية مسيطرة، أو دفاعهم عن مصالحهم كدول عظمى سابقة، أو دول بقوائم اقتصادية ونفوذ مالي كبير في العالم، لكن لا قواعد عسكرية، أي نفوذها جزره بدون عصا.

ــ يضاف إلى ما تقدم بأن الموقف الأوربي منذ اجتياح السابع من أكتوبر لغلاف غزة الاسرائيلي ، كان ولايزال موقف حيرة وقلق مما يجري وخوفاً من انتشار هذه الحالة إلى “الشرق الأوسط الواسع” الذي تدعو له الولايات المتحدة منذ عام 2003 عند الاجتياح الأمريكي البريطاني للعراق ، وكما هو في دعوة وزيره الخارجية آنذاك ((كوندوليزا رايس)) ووزير الدفاع رامسفيلد ، وحتى الرئيس الأمريكي بوش الثاني ، من أن فوضى خلاقة ستجتاح  منطقة الشرق الأوسط الواسع وهي الوسيلة إلى تخطيط وايجاد و تصنيع شرق اوسط واسع وجديد على أنقاض شرق أوسط (( سايكس و بيكو)) البريطاني الفرنسي البائد.

ــ  إن تصريحات كبار قادة اليهود السياسيين والعسكريين وخاصة رئيس وزرائهم ومندوبهم في الأمم المتحدة كلها تدل على أن اسرائيل المصنعة مؤقتاً قد أزفت نهايتها على الأقل سياسياً إن لم يكن جغرافياً ومواقف الولايات المتحدة تدل على ذلك ، فإنها تمارس الضغوط السياسية والعسكرية والشعبية الجماهيرية بما فيها الطلابية والإعلامية ، من أجل لوي عنقها لتقبل بالتسويات المفروضة من قبل الولايات المتحدة ، والتي ستؤدي من منظور اسرائيلي إلى انتهائها ككيان يهودي مستقل كما صرح كبار مسؤوليها ، حيث سيقاتل ((نتنياهو)) بأظافره ولن يسمح بتدمير بلده كما قال ، من الواضح أن اسرائيل تجد نفسها أمام خيارين إما الزوال أو القبول بشرق أوسط واسع أمريكي غير واضح المعالم بالنسبة إلى مستقبلها ومستقبل المنطق السياسي والجغرافي.

ــ أرى أن هذا ما يخيف الأوربيين وخاصة الفرنسيين باستثناء بريطانيا نظراً لوجود مانع مائي وسياسة مستقلة ودهاء وخبرة في إدراك السياسة الدولية، وهذا ما جعل الرئيس الفرنسي ماكرون

 

بحالة شبه هستيرية ليستعمل كلمة إنهاء وحشي لأوروبا لأنها في حالة موت سريري، والحقيقة أنه يعلم أن الولايات المتحدة والصين متفقتان على قطع شريان حياة فرنسا بإخراجها نهائياً من كنوزها في أفريقيا، وربما يقصد ذلك في موتها السريري.

إن الخلافات الروسية الأوربية هي خلافات حدودية وليست وجودية، ولذلك لا يصح للسياسي المتمرس في الشأن الخارجي للعالم ان يقول إن ماكرون يقصد روسيا لأنها غير قادرة على ذلك عسكرياً وسياسياً ويكفيها المخطط الأوربي الخبيث من أجل تقسيمها وتفكيك وحدتها وهو السبب الذي جعل روسيا تعلن الحرب على أوكرانيا وإن أقصى غايتها ومرادها ومقدرتها الحصول على نفوذ في أوربا باعتراف ومشاركة أوربية.

ــ إذن لابد أن يكون مصدر خوف وقلق ماكرون هو انتشار الحالة الغزاوية  لأنه يخدم مصالح الأمريكيين لشرق اوسط واسع وجديد ، ينهي سايكس بيكو البريطاني الفرنسي ويسوق العالم إلى نظام سياسي عالمي مالي جديد ، يرفع ضغط الديون عنها والبالغة /34/ ترليون دولار ، مع إغراق الخزانة العامة و الاقتصاد الأمريكي في عجز سنوي قُدّر بتريليونين دولار ، والغاية مسح هذه الديون وذلك بالعودة إلى نظام اتفاقية ((برايتون و ودز)) الذهبي التي أوقفها الرئيس الامريكي نيكسون بتاريخ 15/8/1971  أو نظام معدني بوثائق ائتمانية أو سلة عملات توافق عليها الصين من خلال  وفاق أمريكي صيني كصفقة واحدة تخدم مصالحهما المشتركة في نظام عالمي جديد ، ويكون ذلك على حساب اوروبا وروسيا وهذا ما يخشاه الرئيس ماكرون أن يكون حصول ما تقدم يترتب على نتائج ما سمي باليوم التالي للقتال في غزة و أوكرانيا ، والسياسة رأي يحتمل الصواب والخطأ، ولكن الواقع الحسي يدل على أن الولايات المتحدة لا مفر لها من ركب هذه المغامرة الذرائعية الخطيرة ومشاركة الصين وجغرافية الشرق الأوسط الواسع إذا أرادت أن تستمر قوة ذات نفوذ أول في العالم.

 

د. منير الشواف

تعليقات
تحميل البيانات ....

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافق إقرأ أكثر